فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد ذكر ابن المبارك في دقائقه عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أن بعد أخذ النار هؤلاء تنشر الصحف وتوضع الموازين، وتدعى الخلائق للحساب.
فإن قيل: فقد قال تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} وقال: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} وقال: ولا يكلمهم الله وهذا يتناول بعمومه جميع الكفار.
قلنا: القيامة مواطن فموطن يكون فيه سؤال وكلام وموطن لا يكون ذلك فلا يتناقض الآي، والأخبار والله المستعان.
قال عكرمة: القيامة مواطن يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها. وقال ابن عباس: لا يسألون سؤالًا شفا وراحة، وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ لم عملتم كذا وكذا والقاطع لهذا قوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون}.
قال أهل التأويل عن لا إله إلا الله: وقد قيل إن الكفار يحاسبون بالكفر بالله الذي كان طول العمر دثارهم وشعارهم وكل دلالة من دلائل الإيمان خالفوها وعاندوها، فإنهم يبكتون عليها ويسألون عنها عن الرسل وتكذيبهم إياهم لقيام الدلائل على صدقهم.
وقال تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقالًا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} والآي في هذا المعنى كثيرة، ومن تأمل آخر سورة المؤمنين فإذا نفخ في الصور إلى آخرها تبين له الصواب في ذلك والحمد لله على ذلك.
وذكر ابن المبارك، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن بعد أخذ النار هؤلاء الثلاثة: تنشر الصحف وتوضع الموازين ويدعى الخلائق للحساب. وشهر: ضغفه مسلم في كتابه وغيره.
فإن قيل: فقد ذكر اللالكائي في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت: لا يحاسب رجل يوم القيامة إلا دخل الجنة قالوا: ولأن الحساب إنما يراد للثواب والجزاء ولا حسنات للكافر فيجازي عليها بحسابه ولأن المحاسب له هو الله تعالى، وقد قال: ولا يكلمهم الله يوم القيامة.
قلنا: ما روي عن عائشة قد خالفها غيرها في ذلك للآيات والأحاديث الواردة في ذلك وهو الصحيح، ومعنى {لا يكلمهم الله} أي بما يحبونه، قال الطبري: وفي التنزيل اخسئوا فيها ولا تكلمون وقد قيل إن معنى قوله تعالى: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} {لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} سؤال التعرف لتمييز المؤمنين من الكافرين. أي أن الملائكة لا تحتاج أن تسأل أحدًا يوم القيامة أن يقال ما كان دينك وما كنت تصنع في الدنيا حتى يتبين لهم بإخباره عن نفسه أنه مان مؤمنًا أو كان كافرًا. لكن المؤمنين يكونون ناضري الوجوه منشرحي الصدور، ويكون المشركون سود الوجوه زرقًا مكروبين، فهم إذا كلفوا سوق المجرمين إلى النار وتميزهم في الموقف كفتهم مناظرهم عن تعرف أديانهم، ومن قال هذا فيحتمل أن يقول إن الأمر يوم القيامة يكون بخلاف ما هو كائن قبله على ما وردت به الأخبار من سؤال الملكين الميت إذا دفن وانصرف الناس عنه فيسألونه عن ربه ودينه ونبيه. أي إذا كان يوم القيامة لم تسأل الملائكة عند الحاجة إلى تمييز فريق عن هذا لاستغنائهم بمناظرهم عما وراءها، ومن قاله يحتج بقوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} أخبر أنهم يسألهم عن أعمالهم وهذه الآية في الكافرين، ومن قال يسألهم عن أصل كفرهم ثم عن تجريدهم إياه كل وقت باستهزائهم بآيات الله تعالى ورسله، فقد سألهم عما كانوا يعملون. وذلك هو المراد.

.باب ما جاء في شهادة الأرض والليالي والأيام بما عمل فيها وعليها وفي شهادة المال على صاحبه وقوله تعالى: {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد}.

الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية يومئذ تحدث أخبارها قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبدًا أو أمةً بما عمل على ظهرها تقول: عمل يوم كذا كذا وكذا. فهذه أخبارها» قال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
أبو نعيم، عن معاوية بن قرة، عن معقل بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادي فيه: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل عليك غدًا شهيد فاعمل في خيرًا أشهد لك به غدًا فإني لو قد مضيت لم ترني أبدًا. ويقول الليل مثل ذلك» غريب من حديث معاوية تفرد عنه زيد العمى، ولا أعلمه مرفوعًا عن النبي إلا بهذا الإسناد.
ابن المبارك، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: من سجد في موضع عن شجر أو حجر شهد له عند الله يوم القيامة قال: وأخبرني ابن أبي خالد رضي الله عنه قال: سمعت أبا عيسى يحيى بن رافع يقول: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه: يقول: {وجاءت سكرة الموت بالحق }وقال تعالى: {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} قال: سائق يسوقها إلى أمر الله وشاهد يشهد عليها بما عملت.
وخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «وإن هذا المال خضر حلو ونعم صاحب السلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل» أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة» وقد تقدم أنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه الأئمة مالك وغيره.
قال المؤلف: فتفكر يا أخي وإن كنت شاهدًا عدلًا بأنك مشهود عليك في كل أحوالك من فعلك ومقالك وأعظم الشهود لديك المطلع عليك الذي لا تخفى عليه خافية عين ولا يغيب عنه زمان ولا أين، قال الله تعالى {لا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودًا إذ تفيضون فيه} فاعمل عمل من يعلم أنه راجع إليه وفادم عليه يجازي على الصغير والكبير والقليل والكثير. سبحانه لا إله إلا هو.

.باب لا يشهد العبد على شهادة في الدنيا إلا شهد بها يوم القيامة:

ابن المبارك قال: أخبرنا رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد ابن أبي هلال، عن سليمان بن راشد أنه بلغه أن امرًا لا يشهد على شهادة في الدنيا إلا شهد بها يوم القيامة على رءوس الأشهاد، ولا يمتدح عبدًا في الدنيا إلا امتدحه يوم القيامة على رءوس الأشهاد. قلت: هذا صحيح، يدل على صحته من الكتاب قول الحق {ستكتب شهادتهم ويسألون} وقوله: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} والله أعلم. اهـ.

.تفسير الآيات (69- 76):

قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الشعر مع ما بني عليه من التكلف الذي هو بعيدًا جدًا عن سجايا الأنبياء فكيف بأشرفهم مما يكتسب به مدحًا وهجوًا، فيكون أكثره كذبًا- إلى غير ذلك من معايبه، قال سبحانه وتعالى: {وما ينبغي له} أي وما يصح ولا ينطلب ولا يتأتى أصلًا، لأن منصبه أجل، وهمته أعلى من أن يكون مداحًا أو عيابًا، أو أن يتقيد بما قد يجر إلى نقيصة في المعنى، وجبلته منافية لذلك غاية المنافاة.
ولما تمت الدلالة على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وتضمنت أن الشعر- وهو تعمد صوغ الكلام على وزن معلوم وقافية ملتزمة- نقيصة لما ذكر ولما يلزمه التقيد بالوزن والروي والقافية من التقديم والتأخير والتحويم على المعاني من غير إفصاح ولا تبيين فيصير عسر الفهم مستعصي البيان، ونفى عنه صلى الله عليه وسلم تلك النقيصة، فتضمن ذلك تنزيه ما أنزل عليه عنها- كما أشارت إليه نون العظمة في علمنا أثبت له ما ينبغي له فقال كالتعليل لما قبله: {إن} أي ما {هو} أي هذا الذي أتاكم به {إلا ذكر} أي شرف وموعظة {وقرآن} أي جامع للحكم كلها دنيا وأخرى يتلى في المحاريب ويكرر في المتعبدات، وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين مع الفصل بين الملبسات {مبين} أي ظاهر في ذلك مطلق لكل ما فيه لمن يرومه حق رومه، ويسومه بأغلى سومه، بعد أن يشترط في مطلق فهمه ومجرد اللذة به الذكي والغبي والحديد والبليد، وليس هو بشعر متكلف يتقدم فيه- بحكم التزام الوزن والروي والقافية- الشيء عن حاق موضعه تارة ويتأخر أخرى، ويبدل بما لا يساويه فتنقص معانيه وتنعقد فتشكل فلا يفهمه إلا ذاك وذاك مع أنه من همزات الشياطين فيا بعد ما بينهما، ويبين هذا المعنى غاية البيان آخر ص {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} {إن هو إلا ذكر للعالمين} أي كلهم ذكيهم وغبيهم بخلاف الشعر فإنه مع نزوله عن بلاغته جدًا إنما هو ذكر للأذكياء جدًا.
ولما ذكر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما آتاه من غرائز الشرف في سن النكس لغيره، ذكر علة ذلك فقال: {لينذر} أي الرسول صلى الله عليه وسلم بدليل ما دل عليه السياق من التقدير، ويؤيده لفت الكلام في قراءة نافع وابن عامر ويعقوب بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهمه حق فهمه غيره صلى الله عليه وسلم.
ولما كان هذا القرآن مبينًا، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم متخلقًا به، فهو مظهره وصورة وسورته، فكان حاله مقتضيًا لئلا يتخلف عن الإيمان حيّ، قال مظهرًا لما كان حقه في بادي الرأي الإضمار إفادة للتعميم مبينًا لأن حكمه سبحانه منع من ذلك، فانقسم المنذورن إلى قسمين: {من كان} كونًا متمكنًا {حيًا} أي حياة كاملة معنوية تكون سببًا للحياة الدائمة، فإنه لا يتوقف حينئذ عن الإيمان به خوفًا مما يخوف به من الأمور التي لا يتوجه إليها ريب بوجه، فيرجى له الخير، فهو مؤمن في الحقيقة وإن ظهر عليه في أول أمره خلاف ذلك، وأفرد الضمير هنا على اللفظ إشارة إلى قلة السعداء، وجمع في الثاني على المعنى إعلامًا بكثرة الأشقياء {ويحق} أي يجب ويثبت {القول} أي بالعذاب {على الكافرين} أي العريقين في الكفر فإنهم أموات في الحقيقة وإن رأيتهم أحياء، فالآية من الاحتباك: حذف الإيمان أولًا لما دل عليه من ضده ثانيًا، وحذف الموت ثانيًا لما دل عليه من ضده أولًا، فتحقق بهذا أن أعظم منافاة القرآن للشعر وكذا السجع من أجل أنه جد كله، فمحط أساليبه بالقصد الأول المعاني والألفاظ تابعة، والشاعر والساجع محط نظرهما بالقصد الأول الروي والقافية والفاصلة حتى أن ذلك ليؤدي إلى ركة المعنى والكلام بغير الواقع ولا بد.
كما قال حسان بن ثابت رضى الله عنه وحاله معروف في البلاغة والتفنن في أساليب الكلام وصدق اللهجة وحسن الإسلام في غزوة الغابة وكان أميرها سعد بن زيد الأشهلي رضى الله عنه:
أسر أولاد اللقيطة أننا ** سلم غداة فوارس المقداد

فغضب سعد على حسان رضى الله عنهما وحلف: لا يكلمه أبدًا، وقال: انطلق إلى خيلي وفوارسي، فجعلها للمقداد، فاعتذر إليه حسان رضى الله عنهما ومدحه بأبيات وقال: والله ما أردت ذلك ولكن الروي وافق اسم المقداد، لأن القصيدة دالية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يدور في فكره أبدًا قصد اللفظ، فإنه من باب الترويق، وهو صلى الله عليه وسلم جد كله، فهو لا يعدل عنه لأنه موزون، بل لأنه لا يؤدي المعنى كما أن العرب تعدل عن اللحن ولا تحسن النطق به ولا تطوع ألسنتها له لكونه لحنًا، لا لكونه حركة، فإن وافق شيء من الموزون ما أريد من المعنى لأجل أداء المعنى قاله، كما يقع لكثير من المصنفين الكلام الموزون وما قصده، وكما وقع كثير من الكلام الموزون من جميع أبحر الشعر في القرآن وإن لم يوافق المعنى لم يقله، وعلى هذا يتخرج قوله صلى الله عليه وسلم:
«أنا النبي لا كذب ** أنا ابن عبد المطلب»
لو تظاهر الإنس والجن على أن يأتوا بما أداه من المعنى في ألفاظه أو مثلها على غير هذا النظم لم يقدروا، وإذا تأملت كل بيت تمثل به فكسره لا تجده كسره إلا لمعنى جليل، لا يتأتى مع الوزن أو يكون لا فرق بين أدائه موزونًا ومكسورًا، وهكذا السجع سواء، ومن هنا علم أنه ليس المعنى أنه لا يحسن الوزن، بل المعنى أن تعمد الوزن والسجع نقيصة لا تليق بمنصبه العالي لأن الشاعر مقيد بوزن وروي وقافية، فإن إطاعه المعنى مع ما هو مقيد به كان وإلا احتال في إتمام ما هو مقيد به وإن نقص المعنى، والساجع قريب من ذلك، فهذا هو الذي لم يعلمه الله له، لأنه صلى الله عليه وسلم تابع للمعاني والحقائق والحكم التي تفيد الحياة الدائمة، لأنه مهيأ بالطبع المستقيم لذلك غير مهيأ لغيره من التكلف، وإذا أنعمت النظر في آخر الآية الذي هو تعليل لما قبله تحققت أن هذا هو المراد، فوضح أيّ وضوح بهذا أن كلًا منهما نقيصة، فلا يتحرك شيء من أخلاقه الشريفة نحوها، ولا يكون له بذلك شيء من الاعتناء، وقد أشبعت الكلام في هذا وأتقنته في كتابي مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور وهو كالمدخل إلى هذا الكتاب والله الموفق للصواب.
ولما أخبر سبحانه بإعماء أفكارهم، وهدد بطمس أبصارهم، ومسخهم على مقاعدهم وقرارهم، وأعلم بأن كتابه خاتم بإنذارهم، ذكرهم بقدرته وقررهم تثبيتًا لذلك ببدائع صنعته، فقال عاطفًا على ما تقديره: ألم يروا ما قدمناه وأفهمته آية {ومن نعمره} وما بعدها من بدائع صنعنا تلويحًا وتصريحًا الدال على علمنا الشامل وقدرتنا التامة، فمهما صوبنا كلامنا إليه حق القول عليه ولم يمنعه مانع، ولا يتصور له دافع {أولم يروا} أي يعلموا علمًا هو كالرؤية ما هو أظهر عندهم دلالة من ذلك في أجل أموالهم، ولا يبعد عندي- وإن طال المدى- أن يكون معطوفًا على قوله: {ألم يروا كما أهلكنا قبلهم من القرون} فذاك استعطاف إلى توحيده بالتحذير من النقم، وهذا بالتذكير بالنعم، ونبههم على ما في ذلك من العظمة بسوق الكلام في مظهرها كما فعل في آية إهلاك القرون فقال: {أنا خلقنا لهم} وخصها بنفسه الشريفة محوًا للأسباب وإظهارًا لتشريفهم بتشريفها في قوله: {مما عملت}.
ولما كان الإنسان مقيدًا بالوهم لا ينفك عنه، ولذلك يرة الأرواح في المنام في صور أجسادنا، وكانت يده محل قدرته وموضع اختصاصه، عبر له بما يفهمه فقال: {أيدينا} لأي بغير واسطة على علم منا بقواها ومقاديرها ومنافعها وطبائعها وغير ذلك من أمورها {أنعامًا} ثم بين كونها لهم بما سبب عن خلقها من قوله: {فهم لها مالكون} أي ضابطون قاهرون من غير قدرة لهم على ذلك لولا قدرتنا بنوع التسبب.
ولما كان الملك لا يستلزم الطواعية، قال تعالى: {وذللناها لهم} أي يسرنا قيادها، ولو شئنا لجعلناها وحشية كما جعلنا أصغر منها وأضعف، فمن قدر على تذليل الأشياء الصعبة جدًا لغيره فهو قادر على تطويع الأشياء لنفسه، ثم سبب عن ذلك قوله: {فمنها ركوبهم} أي ما يركبون، وهي الإبل لأنها أعظم مركوباتهم لعموم منافعها في ذلك وكثرتها، ولمثل ذلك في التذكير بعظيم النعمة والنفع واستقلال كل من النعمتين بنفسه أعاد الجار، وعبر بالمضارع للتجدد بتجدد الذبح بخلاف المركوب فإن صلاحه لذلك ثابت دائم فقال: {ومنها يأكلون}.
ولما أشار إلى عظمة نفع الركوب والأكل بتقديم الجار، وكانت منافعها من غير ذلك كثيرة، قال: {ولهم فيها منافع} أي بالأصواف والأوبار والأشعار والجلود والبيع وغير ذلك، وخص المشرب من عموم المنافع لعموم نفعه، فقال جامعًا له لاختلاف طعوم ألبان الأنواع الثلاثة، وكأنه عبر بمنتهى الجموع لاختلاف طعوم أفراد النوع الواحد لمن تأمل {ومشارب} أي من الألبان، أخرجناها مميزة عن الفرث والدم خالصة لذيذة، وكل ذلك لا سبب له إلا أن كلمتنا حقت به، فلم يكن بد من كونه على وفق ما أردنا، فليحذر من هو أضعف حالًا منها من حقوق أمرنا ومضي حكمنا بما يسوءه.